وعلى الرغم من أن عملية النطق والكلام تبدو سهلة وميسرة، فإنه عملية أو مجموعة عمليات عصبية عقلية عضوية نفسية جسمية معقدة، وهي توصف بهذا الوصف طبقًا للأعضاء والأجهزة التي تشارك في عملية النطق، وهي عملية ليست متعددة الجوانب فقط، ولكنها عملية توافقية أيضًا، بمعنى أن هذه الأجهزة والأعضاء تعمل معًا في تنسيق وتوافق بالغي الدقة والانضباط، فعملية نطق الكلام يشارك فيها من أعضاء الجسم الحجاب الحاجز والرئتان والأحبال الصوتية في الحنجرة والفم والتجويف الأنفي واللسان والشفتان، إضافة إلى مراكز الكلام في المخ؛ حيث تقوم الرئتان والحجاب الحاجز بتعبئة الهواء وتنظيم اندفاعه ليمر على الحبلين الصوتيين في الحنجرة والفم والتجويف الأنفي، وتحدث التشكيلات الصوتية المطلوبة بتوجيه من مراكز الكلام في المخ، ويستخدم اللسان والشفتان في زيادة تنويعات الأصوات وتنغيمها، كما تساعد الأسنان على زيادة دقة النطق.
وأشد حالات صعوبات النطق والكلام وأكثرها انتشارًا هي تلك التي تتضمن ترديد وتكرار الحرف الأول من الكلمة ثم نطقها بعد ذلك. ويدخل في هذه التمتمة والتأتأة والفأفأة والخمخمة والتهتهة واللجلجة، وذلك حسب الحرف الذي يحدث فيه التكرار، ولكن مصطلح التهتهة Stuttering Stammering أصبح علامة وإشارة عند الناس على كل صعوبات النطق والكلام. والتهتهة تصيب ما يقل عن 1% من الناس، سوء من الصغار أو من الكبار، فهي ليست قاصرة على الأطفال فقط. كما أنها يمكن أن تحدث للشخص العادي تمامًا، وذلك في مواقف معينة، مثل المواقف التي يتعرض فيها لما يثير خوفه على نحو شديد، أو عندما تكون ألفاظه ومحصوله اللغوي قاصرًا على التعبير عما يريد قوله، وحالة ثالثة تحدث فيها التهتهة عند الجميع، وذلك عندما تتدفق الأفكار بسرعة وبمعدل أكبر من القدرة على التعبير، ومما لا شك فيه أن التهتهة تحدث عن الأطفال في سن ما قبل المدرسة أكثر مما تحدث في أي مرحلة عمرية أخرى؛ لأن الأطفال في هذه السن أكثر عرضة من غيرهم للتعرض لتلك العوامل السابقة الإشارة إليها.
ولأن التهتهة هي أشهر صعوبات النطق والكلام؛ فإننا سنتحدث عنها بشيء من التفصيل. ولكن قبل الحديث عن التهتهة نشير إلى عرضين آخرين من أعراض صعوبات النطق والكلام تحدث عند أطفال ما قبل المدرسة، هما: التحدث كالرضيع، والإقلال من التكلم.
الكلام الرضيع:
أما عن الكلام الرضيع فهو عرض يظهر كجزء من حالة انتكاس تعتري الطفل في مرحلة ما قبل المدرسة (3 – 5 سنوات) فنجده يسلك وكأنه ما زال في مرحلة المهد، فيتحدث وكأنه في العام الثاني من عمره، ويمكن أن يضع يده في فمه، ويمص أصابعه، ويريد أن يناوله الآخرون ما يحتاج إليه، في حين أن ما يريده في متناول يده، ويسأل عن أشياء تعرف الأم أو معلمة الروضة أنه يعرفها. وهي حالة نكوص سلوكي عام يغلب أن يتعرض لها الطفل في مرحلة رياض الأطفال (4 – 6) عندما يتهدد وضعه في الأسرة كمولد أخ له وانسحاب اهتمام الأم ورعايتهما عنه إلى هذا الأخ الجديد، فيشعر طفل الروضة بالغيرة، ويعبر بسلوكه النكوصي عن الاحتجاج والانفعال والغيظ ومحاولة لفت انتباه الأم، وقد يعود الطفل إلى تبليل فراشه ليلاً بعد أن يكون قد ضبط عملية التبول تمامًا، أو أن يكون عرضه لبعض المواقف التي تمثل له تحديًا أو ضغطًا ولا يعرف كيف يواجهها، سواء في علاقاته مع رفاقه في الروضة، أو لأن المعلمة لا تنتبه إليه كما تفعل مع الأطفال الآخرين.
الامتناع عن الكلام:
وأما عن العرض الآخر الذي يمثل صعوبات في النطق والكلام لأطفال سن ما قبل المدرسة فهو الامتناع عن الكلام والاكتفاء بالإشارة في التعبير عن نفسه وعما يريد. والذي يساعده على الاستمرار في هذا السلوك أنه ينجح في التعامل من خلاله في التواصل مع الأم ومع المعلمة، حيث يفهمان إشاراته، ويلبيان ما يحتاج إليه، فنجد أن الطفل يشير لأمه على ما يحتاج إليه، فتقوم الأم بتلببة طلبه، أو يجذب المعلمة من ملابسها، ويشير لها على كتاب على رف في المكتبة؛ لتناوله إياه.
وأحيانًا ما يمتنع الطفل عن الكلام مع المعلمة، في حين أنه يتحدث إلى الأم بشكل طبيعي، وقد يدفع الطفل إلى هذا السلوك رغبته في لفت نظر المعلمة؛ لكي تقدم له اهتمامًا يشعر أنه يفتقده بالقياس إلى زملائه. وينجح هذا الأسلوب إذا ما ذاع وانتشر بين المعلمات بأن الطفل (س) لا يتكلم، وإنما هو قادر على التعبير عن نفسه ببراعة عن طريق الإشارة. وتقبل منه المعلمات هذا المسلك. ويتعاملن معه على هذا الأساس، وبذلك فهن يعززن هذا السلوك، وفي بعض الحالات تكون حصيلة الطفل اللغوية قليلة بالنسبة إلى أصدقائه، أو يشعر أنه غير قادر على تركيب الجمل المعقدة مثل أصحابه، فليجأ إلى أسلوب الإشارة بدلاً من الكلام. وحتى في هذه الحالة لا ينبغي التعامل مع الطفل بالإشارة، بل ينبغي تشجيعه على التعبير عن نفسه بالألفاظ.
التهتهة:
والتهتهة أكثر أعراض صعوبات النطق والكلام عند أطفال ما قبل المدرسة، حيث تقدر بعض الإحصائيات نسبة الأطفال الذين يعانون من التهتهة في سن الروضة بـ 40%، فإذا ما انتقلنا إلى سن المدرسة، انخفضت النسبة إلى 2.5% أو 3%، بينما هي بين الراشدين 1% وتنتشر التهتهة بين أطفال ما قبل المدرسة، ولكنها عندما تظهر بعد سن الخامسة تكون أخطر من تلك التي تظهر قبل هذه السن، والنوع الأول يسمى التهتهة النمائية، أن التهتهة التي يُحتمَل أن تختفي مع النمو واكتساب الطفل المزيد من المران والثقة وعادة لا تستمر هذه التهتهة أكثر من عام. وإذا لم يتعرض الطفل لأحداث أو أمراض خطيرة، وكانت ظروف تنشئته طبيعية؛ فإن هذه التهتهة تزول مع الوقت.
أما التهتهة الدائمة فعادة ما تظهر في نهاية مرحلة الطفولة المبكرة وبداية مرحلة الطفولة المتأخرة (بين السادسة والثامنة). وقد تظهر التهتهة مرة أخرى بعد أن تكون قد اختفت عند الطفل، وتُعتبَر في هذه الحالة تهتهة ثانوية. وتحدث إذا لم يكن الطفل قد تخلص نهائيًا من التهتهة وفي الوقت الذي تعرض فيه لظروف ضاغطة في طفولته المتأخرة. ويصاحب التهتهة الثانوية أعراض أخرى، مثل تكشيرات في الوجه وحركات في الذراع أو في الساق ورمش العينين أو تنفس غير منتظم. وهناك أعراض سلوكية ونفسية تصاحب التهتهة، خاصة تلك التي لا تجد علاجًا سريعًا، أو التي تطول عند الطفل بسبب أو آخر، ومن هذه الأعراض شعور الطفل بالنقص والدونية؛ لأن عدم قدرته على الحديث والتعبير عن نفسه مثل الآخرين يجعله شاعرًا بأنه دون الآخرين. ويزيد الأمر سوءًا إذا ما تعرض الطفل بالفعل لسخرية زملائه زملائه واستهزائهم به؛ مما يذكره دائمًا بقصوره، ويجعله يعيش في ظل هذا العيب الذي يعاني منه. ويترتب على ذلك أن يفضل الطفل الانسحاب والانزواء دائمًا، ويتحاشى المشاركة في الأنشطة الجماعية في الروضة، وتعتريه حالة من الخجل الدائم، حتى إنه يرفض أحيانًا أن يجيب عن أسئلة المعلمة، وأحيانًا ما يصاحب الشعور بالنقص المترتب على التهتهة نزعة عدوانية عند الطفل إزاء الآخرين. خاصة إذا كان بناؤه الجسمي يساعده على ذلك، حيث يميل هذا الطفل إلى الاعتداء على زملائه بالفظ أو اليد أو بتخريب أدواتهم أو بتخريب أثاث الروضة ومملتكاتها؛ تعبيرًا عن الغيظ والنقمة التي يستشعرها نحو البيئة المحيطة به.
ومما هو جدير بالذكر أن صعوبات النطق والكلام وعلى رأسها التهتهة تنتشر بين الأولاد الذكور أكثر مما تنتشر بين البنات. والفرق بين النسبتين كبير جدًا. حيث تصل نسبة الشيوع بين الذكور من (4 – 7) أضعاف نسبتها عند البنات، وهي نتيجة عامة تحدث في معظم المجتمعات، وليست خاصة بمجتمع معين أو ثقافة خاصة؛ مما جعل بعض العلماء يتحدثون عن كفاءة ي أجهزة النطق والكلام عند الإناث تجعلهن بمنأى عن هذه الصعوبات أكثر مما يحدث مع الذكور، والبعض الآخر يرجع هذا الفرق إلى أن الذكور يتعرضون للضغوط النفسية والاجتماعية أكثر مما تتعرض له الإناث. وعلى أي حال فهذا الفرق الكبير بين الجنسين في التهتهة ما زال قابلاً لمزيد من البحث والتفسير.
المصدر:
- مجلة خطوة العدد 17 سبتمبر 2002
- أ. د. علاء الدين كفافي - أستاذ الإرشاد النفسي والصحة النفسية - معهد الدراسات والبحوث التربوية، جامعة القاهرة – مصر
ساحة النقاش